من معرض دار النمر.(أرشيف)
من معرض دار النمر.(أرشيف)
الإثنين 30 سبتمبر 2019 / 20:05

فلسطين العائمة

صور البحر العائم هي غير الصور الأولى التي نعرفها عن الثورة الفلسطينية، فالبحر هنا، وهو صاف هادئ ليس الملحمة الهائجة

عندما ندخل الى مركز النمر الثقافي في بيروت لا نتوقع ما سنشهده على الجدران. في المكان الواسع، وفي القاعات المتصلة، ونحن ندور من منعطف الى منعطف، تقع أعيننا أول ما تقع على صور البحر. لكننا مع ذلك لسنا في سياحة بحرية فهذا ليس مهرجاناً بحرياً. إننا في الواقع أمام بحر له وقائعه وأخباره وسيره وحكاياه، بل يتراءى لنا أننا منقطعون على وجه الماء، انقطاع عوليس على وجه البحر أو أوديسا هوميروس، البحر الممتد بدون صخب وبدون هياج هو الأوذيسة الفلسطينية غالباً، أما اسم المعرض، الوطن العائم، فهو نوع من ترجمة للأوذيسة، فإذا كان المتاه البحري وطناً ووطناً لشعب أُخرج من وطنه ومن أرضه وبقي البحر وحده وطناً له، بل للبحر في متاهه وفي شتاته وفي مساراته، البحر على هذا النحو ليس فقط وطناً عائماً، إنه تذكار الوطن والحنين الى الوطن والوطن الذي هو غربة أبدية وهيام أبدي وشتات أبدي. إنه الوطن الذي هو غياب الوطن ونفيه والترحال خارجه. إنه البحر الذي هو نوع من اللامكان، أو المكان غير محدود، وهو هكذا مكان مقدس وقدس مائي. مكان من لا مكان لهم ووطن الذين غدوا بلا وطن، وطن بلا أرض ولا حدود ولا نهايات.

فؤاد الخوري المولود في باريس 1952 في رحلة بحرية ضمت عدداً من القادة فهم وعلى رأسهم ياسر عرفات مع فؤاد الخوري وجيريمي بيكوك الذي لا يتكلم الا بصوره. منذ بداية الرحلة نعرف أن فلسطين رمزية، فلسطين أخرى هي الذي صارت على وجه الماء. فؤاد الخوري يصرّح برمزية هذه الرحلة، باحتوائها على حكايا وأخبار وسير بل إن كل صورة فيها هي حكاية وهي خبر وهي سيرة. فؤاد الخوري يفرز من بين مئات وآلاف الصور صورته الأيقونة. هذه الصورة لن يجدها في فلسطين بين الأشخاص والناس والأشياء، أما على وجه الماء فإن كل صورة هي بحد ذاتها حدث قائم بنفسه، إن لها كيانها الخاص وأبعادها الخاصة لها تحتها، كيان سري وصورة سرية، كما يقول فؤاد الخوري وكما يقول أيضاً «لكل صورة وجود خاص بها، حينما تذهب الصورة تروي حكاية وربما تكمن قوتها هنا فتحت سطحها الأول والأكثر وضوحاً تحمل الصورة أيضاً صوراً أكثر سرية عندما ترتبط بصورة أخرى ارتباطاً قائماً على اللعب على الروابط والقصص المتعددة التي تبرز منها والتي تكون في بعض الأحيان بعيدة عن المعنى الأول للصورة.

صور البحر العائم هي غير الصور الأولى التي نعرفها عن الثورة الفلسطينية، فالبحر هنا، وهو صاف هادئ ليس الملحمة الهائجة. إنه هنا واعد بالصور وهو هنا بيت للصور ومصدر لها. من هنا كل صورة حدث ومن هنا تحمل الصور تحتها معانيها السرية كما يقول فؤاد الخوري. تنبثق الوحدة والوحدة المتصلة بين الصور. كان فؤاد الخوري يصور بدون أن يدري ما يصل صورة بأخرى. كان يصوّر صورة على صورة بدون أن يدري أن الصور، من حيث لا يعلم، تترابط وأنها تسجل في ترابطها حدثاً تاريخياً، بل تسجل التاريخ نفسه. لهذا كانت كل صورة وحدها وكل صورة بمعناها السري، وحينما تتصل هذه الصورة بنص وعمل فني وأغنية، كما يحدث حين تتحول الى تجهيز، تغدو بدون غضاضة من التاريخ.