الأربعاء 17 أبريل 2024 / 09:20

مرحلة جديدة من الصراع العالمي على النفوذ

الحبيب الأسود - العرب اللندنية

قبل أيام، وصل مدربون عسكريون روس إلى النيجر على متن طائرة محملة بعتاد عسكري، وذلك في إطار اتفاق بين المجلس العسكري والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتعزيز التعاون، وقال أحد العسكريين الروس: "نحن هنا لتدريب جيش النيجر، ولتعزيز التعاون العسكري بين بلدينا".

لم تختلف الصورة كثيراً عما سبق أن حدث في مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى وليبيا، وقد يحدث في دول أخرى خلال الفترة القادمة، فالرمال لا تزال تتحرك في القارة السمراء، لتثير سجالاً حاداً حول الأسباب والدوافع التي جعلت عدداً من الدول تشهد تحولات دراماتيكية في أنظمة الحكم، وانسجاماً غير مسبوق بين الشعوب والحكام العسكريين، وانتقالاً في التحالفات من باريس وواشنطن إلى موسكو التي ما انفكت تحقق نقاطاً مهمة على خارطة الصراع الجيوسياسي في منطقة الساحل والصحراء.
في 16 مارس(آذار) الماضي، و"بمفعول فوري"، ألغى النظام العسكري الحاكم في النيجر اتفاق التعاون العسكري المبرم في 2012 مع الولايات المتحدة، وقال في بيان إن "حكومة النيجر، آخذة طموحات الشعب ومصالحه في الاعتبار، تقرر بكل مسؤولية أن تلغي بمفعول فوري الاتفاق المتعلق بوضع الطاقم العسكري للولايات المتحدة والموظفين المدنيين في وزارة الدفاع الأمريكية على أراضي النيجر"، مشيراُ إلى أن الوجود العسكري الأمريكي "غير قانوني" و"ينتهك كل القواعد الدستورية والديمقراطية"، وأن الاتفاق المذكور "مجحف" وتم فرضه أحادياً من قبل الولايات المتحدة عبر مذكرة شفوية بسيطة في 6 يوليو (تموز) 2012.

التجميد من بين الأسباب التي عجلت باتخاذ القرار أن وفداً أمريكياً برئاسة مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية مولي في، نزل بالعاصمة نيامي دون احترام للأعراف الدبلوماسية، وكان رد النيجر عليه واضحاً، حيث رفض الجنرال عبدالرحمن تشياني قائد المجلس العسكري، استقباله خلال الأيام الثلاثة التي قضاها في البلاد.

لم يكن تشياني في حاجة إلى ما يصفه المقربون منه بالخطاب المتعالي الذي تعتمده واشنطن في الحديث إليه وإلى زملائه من القادة العسكريين الجدد في المنطقة. كذلك كان يدرك جيداً أن الجانب الأمريكي يريد إملاء أوامره بعد أن قرر تجميد المساعدات المالية التي تبلغ 260 مليون دولار بعد الإطاحة بنظام محمد بازوم في يوليو(تموز) 2023 واشترط استعادة الحكم المدني.
قد يكون من الصعب على الإدارة الأمريكية التعامل مع حقيقة لا تتبادر إلى ذهنها، وهي أن الوضع في النيجر وجوارها لا يمكن فصله عن بقية ما يدور في المنطقة العربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولا عن الثقافة الإسلامية السائدة حالياً بنظرتها السلبية في أغلب الأحيان للدول الغربية، لاسيما في علاقتها بالملف الفلسطيني. أقرب النماذج إلى النيجر هو النموذج الليبي وما تسبب فيه تدخل الناتو من فوضى لا تزال مستمرة منذ العام 2011، وتعتبر من الأسباب الرئيسة لما شهدته منطقة الساحل والصحراء خلال السنوات الماضية من انتشار للسلاح واتساع لدائرة الإرهاب والنزعات الانفصالية.
لا تخفي شعوب المنطقة ما ينتابها من شكوك بخصوص علاقة العواصم الغربية بالجماعات الإرهابية التي تمددت خلال العامين الماضيين بشكل غير مسبوق في غرب أفريقيا. من الناحية المبدئية لا يمكن فهم قرار واشنطن وباريس بوقف التنسيق الأمني مع السلطات الجديدة في دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو بدعوى أنها انقلابية. هذا الأمر كشف عن جملة من الحقائق من بينها أن العواصم الغربية لا ترى موجباً لمكافحة الإرهاب إن كان يستهدف أنظمة لا تنسجم مع خياراتها، بل بالعكس قد يكون الإرهاب أداة عقاب لتلك الأنظمة. ثم إن العواصم الغربية التي تمتلك الأجهزة المخابراتية والقدرات التقنية الواسعة، تتحاشى تقديم أي إحداثيات قد تساعد القوى الأمنية والعسكرية المحلية في التصدي للجماعات الإرهابية.

هناك مسألة أخرى لا تقل أهمية، وهي عدم احترام العواصم الغربية لسيادة الدول الفقيرة التي تم امتصاص ثرواتها خلال عقود طويلة، لقد قالها سابقاً الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك "دون أفريقيا، فرنسا ستنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث"، وكشف بكثير من الوضوح "علينا أن نكون صادقين، ونعترف بأن جزءاً كبيراً من الأموال في البنوك لدينا تأتي بالضبط من استغلال القارة الأفريقية"، وقبله قالها فرانسوا ميتران "دون أفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الحادي والعشرين".
لم يقدم الغرب لأفريقيا شيئاً يذكر، وإنما استعبد شعوبها واستغل ثرواتها ودعم أنظمتها الديكتاتورية، وكلما قام في القارة زعيم وطني يدافع عن سيادة وطنه، كان مصيره الاغتيال أو الانقلاب عليه. لنأخذ مثلاً موديبو كيتا، أول رئيس منتخب في جمهورية مالي، الذي قرر في 30 يونيو (حزيران) من سنة 1962، الخروج من نظام العملة الاستعمارية التي كانت فرنسا فرضتها آنذاك على 12 دولة من الدول الأفريقية المستقلة حديثاً، واختار لبلاده نزعة تحررية مع نموذج اشتراكي للاقتصاد، وكان منادياً شجاعاً بوحدة القارة، ليكون مصيره الانقلاب عليه من قبل موسى تراوري وهو ملازم سابق في الفيلق الأجنبي في الجيش الفرنسي، والدفع به إلى معسكر "دجوكوروني" حيث اعتقل إلى حين وفاته في 16 مايو (أيار) 1977 بعد تسميمه من قبل المكلفين بحراسته.
في بوركينا فاسو، يعتبر الرئيس الحالي إبراهيم تراوري نفسه امتداداً للزعيم التاريخي الثائر توماس سنكارا الذي سعى لتحرير بلاده من التبعية للغرب وقاد ثورة اقتصادية واجتماعية وثقافية، حتى إن بلاده كانت الأولى في أفريقيا التي تحقق الاكتفاء الذاتي الغذائي، كما يعد الرئيس الأول في تاريخ القارة الذي منع ختان الإناث وزواج القاصرات وتعدد الزوجات، وقام بتعيين نساء في المناصب الحكومية العليا، وبعد أن حكم البلاد أربع سنوات فقط، تم اغتياله في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1987 وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره، وقد كانت بصمات المستعمرين واضحة، قبل مقتله بأسبوع واحد قال: "يمكن قتل الثوار لكن أفكارهم لا تقتل".

أكثر من 20 زعيماً أفريقياً جرى اغتيالهم أو الانقلاب عليهم بسبب مواقفهم الوطنية، أغلبهم كانوا من اليساريين المعادين للاستعمار، وممن كانوا يطمحون إلى تحرير أوطانهم من براثن شركات النهب الممنهج. اليوم تستعيد الشعوب صفحات تاريخها وخاصة تلك المتعلقة برموزها الوطنية، وتحاول أن تستيقظ من عتمة العدم، وهي ببساطة تكشف عن آلامها وهمومها وتحصي ما نهب منها، بما في ذلك الإنسان الأفريقي نفسه.
في هذا السياق، تستفيد روسيا من علاقاتها التاريخية مع ثورات الاستقلال والزعماء الوطنيين ممن كانت تربطهم صداقة متينة مع الاتحاد السوفيتي، ومن قدرتها على احترام الشعوب الأخرى والتعامل معها بندية، وعلى الإيفاء بوعودها تجاه أصدقائها، وهي غير متورطة في تجارب استعمارية في القارة، ولا في نهب ثروات الأفارقة، كما أن موقفها من الإرهاب واضح وغير قابل للتشكيك فيه، واحترامها لثقافات الشعوب وعدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول يعطيها مجالاً فسيحاً لتكريس حضورها.
في مارس (آذار) 2023، اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن عصر فرنسا الأفريقية قد انتهى، وكلامه صحيح، ليس فقط لأن الأبواب أوصدت أمام باريس في عدد من الدول، ولكن كذلك لأن تلك الدول قررت ألا تترك فراغاً يمكن الدخول منه للعبث من جديد بواقعها ومقدراتها. النوافذ كذلك باتت مغلقة في أغلب الأحيان. حتى الولايات المتحدة باتت غير مرغوب فيها في القارة السمراء، والسبب ليس فقط الصراع على النفوذ، وإنما هو عجزها عن فهم التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، ورفض الشعوب الاستهانة بها والتعامل معها بفوقية باتت مرفوضة من الأفارقة الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه في معركة العمل على تحقيق الذات.