من مباني مصر القديمة. (أرشيف)
من مباني مصر القديمة. (أرشيف)
الخميس 19 أكتوبر 2017 / 20:03

المرأة التي رفضت الزواج من فليسوف الجيل

لا أجد مبرراً لعجز العرب - حتى الآن - عن التفاهم فيما بينهم، على نحو يمكنهم من خوض معركة انتخابات المدير العام لمنظة اليونسكو، على الرغم من أنهم يشكلون كتلة ثقافية ذات سمات مشتركة وصلات وثيقة بالثقافة العالمية، فضلاً عن أنها أحد الروافد الأساسية، للحضارة العالمية الراهنة.

هربت خلال الأسبوع الماضي من متابعة جولات التصويت فى انتخابات المدير التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم/ اليونسكو، حتى لا أكرر مشاهدة مسرحية "الأخوة الأعداء"، التي أدمن العرب على القيام بتمثيلها وإخراجها وعرضها ومشاهدتها، بإصرارهم - في كل مرة تجري فيها تلك الانتخابات - على أن يخوضوها متنافسين، وحرصهم المبالغ فيه على أن يخرجوا منها دون أن يفوزوا بعنب الشام أو خوخ اليمن.. أو إدارة اليونسكو.

وكان من حسن حظي هذه المرة، أنني عثرت بالمصادفة، بين رفوف الكتب التي تزدحم بها مكتبتي على كتاب بعنوان "روح مصر"، جمع فيه مؤلفه، وهو الفنان التشكيلي الكويتي جعفر إصلاح وثائق وصور من مقتنياته الخاصة، التي بدأ يجمعها وهو في العاشرة من عمره، حين سمع أحد باعة الصحف، ينادي باسم مجلة مصرية جديدة، صدر عددها الأول فى 12 يناير (كانون الثاني) 1956 هي مجلة "صباح الخير".

وكانت تلك هي بداية الولع بمصر، التي دفعت "جعفر إصلاح" إلى جمع مقتنياته المصرية، التى يضم الكتاب نماذج من صورها. والكتاب الذي يقع في نحو 350 صفحة من القطع الكبير جداً، يحتوي على صور لمباني القاهرة الخديوية، التي بدأ الخديو إسماعيل تأسيسها فى منتصف القرن التاسع عشر، كما يشمل صوراً لوثائق وأوراق رسمية نادرة، صدرت عن هيئات حكومية في تلك الفترة وما تلاها، فضلاً عما استطاع صاحب هذه المقتنيات أن يستنقذه من بقايا أرشيفات رواد التصوير الفوتوغرافي، في بداية القرن العشرين، وكان معظمهم - آنذاك - من الأجانب، الذين سجلوا بكاميراتهم كثيراً من المشاهد والتقاليد الاجتماعية المصرية التي انقرضت الآن، فضلاً عن صور لرجال السياسة والصحافة والأدب وصور للأسرة المالكة في عصري الملك فؤاد وابنه الملك فاروق، ووثائق وصور وأفيشات السينما والمسرح وأهل الفن، وكبار المطربين والملحنين، ونماذج من العقود التي كان العاملون بالفنون يبرمونها مع شركات الإنتاج، أو ما كان يبرمه المنتجون من عقود مع الموزعين الذين يتولون عرض الأفلام والأسطوانات المصرية، فى البلاد العربية الأخرى، وبالإضافة إلى ذلك كله، صور من لوحات الفن التشكيلي ووثائق البريد المصري، وأوراق وأختام الفنادق العريقة في القاهرة.

ولم يكتف جعفر إصلاح بتجميع أصول هذه المقتنيات، ونقل صورها الفوتوغرافية وطباعتها بإتقان شديد، ولكنه - حرص كذلك - على أن يوثقها، بأن يجمع المعلومات الأساسية عن كل وثيقة، ويحرص على ترتيبها وتصنيفها حسب موضوعها وزمن إصدارها أو تلقيها.

ولا بد أن حرص جعفر إصلاح على أن يجمع هذه المقتنيات من مظانها المختلفة، من الأسواق الكويتية القديمة التي قادته بعد ذلك إلى السفر إلى القاهرة وإلى غيرها من المدن، يعكس لوناً من ألوان الولع الشديد الذي يشيع بين كثيرين من العرب والأجانب بكل ما هو مصري، ويشمل - فضلاً عن الإعجاب بالفنون والآداب ولهجة الكلام، وأزياء الملابس - أنواع الطعام ونمط الفكاهات.. إلخ.

وربما لهذا السبب لا أجد مبرراً لعجز العرب - حتى الآن - عن التفاهم فيما بينهم، على نحو يمكنهم من خوض معركة انتخابات المدير العام لمنظة اليونسكو، على الرغم من أنهم يشكلون كتلة ثقافية ذات سمات مشتركة وصلات وثيقة بالثقافة العالمية، فضلاً عن أنها أحد الروافد الأساسية، للحضارة العالمية الراهنة.

أما المهم فهو أن إعجابي بما بذله جعفر إصلاح في جمع وتوثيق كتابه "روح مصر"، جعلني أتوقف أمام واقعة أدهشته على نحو دفعه للتنويه إليها في مقدمة الكتاب، إذ كان من بين ما عثر عليه، خطاب أرسله مواطن يقيم بقرية "معصرة سمالوط"، إلى حضرة المحترم أحمد أفندي لطفي السيد، المراقب بقاعة المطالعة بدار الكتب في القاهرة، يخطره فيه بأنه اطلع على الخطاب الذي أرسله إلى إسماعيل أفندي والخاص بابنة أخيه.. ورداً عليه يفيده بأن رأيه قد استقر على تزويج ابنة أخيه، بابنه فؤاد، أما ابنته رتيبة فإن مرسل الخطاب يؤكد لأحمد لطفي السيد المذكور، أنه لن يوافق على زواجها به، حتى لو دفع لها مهراً وزنها ذهباً!

وقد ظن جعفر إصلاح بسبب التشابه في الأسماء، أن أحمد لطفي السيد المذكور، هو أحمد لطفي السيد باشا، المعروف بـ"فيلسوف الجيل" وأول من ترجم كتاب "السياسة" للفليسوف اليوناني أرسطو إلى العربية، ورائد الليبرالية العربية، مؤسس ورئيس تحرير جريدة "الجريدة" اليومية، التي لمعت على صفحاتها أقلام طه حسين ومحمد حسنين هيكل وقاسم أمين وأحمد فتحي زغلول، وغيرهم من أعلام النهضة العربية، خلال الفترة التي واصلت فيها الصدور بين عامي 1907 و1915 وهو تاريخ إغلاق الجريدة بعد قليل من إعلان الحماية البريطانية على مصر بسبب الحرب العالمية الأولى.

وفى تعليقه على هذه الرسالة ذهب جعفر إصلاح للتساؤل عما إذا كان نشر هذه الوثيقة يعتبر تعدياً على منجزات الفيلسوف أحمد لطفي السيد وتشويهاً له، أم هو اكتشاف للمزيد من عظمته، إذ لو لم يكن كذلك لما احتفظ بالرسالة ولدمرها فى اللحظة التي تسلمها فيها، ولكنها - في تقديره - شكلت حافزاً دفعه لمواصلة التحدي الذي حوله من إنسان عادي إلى إنسان عظيم.

والحقيقة أنه لا صلة بين أحمد لطفي السيد باشا وبين أحمد أفندي لطفي السيد المراقب بقاعة الدوريات بدار الكتب المصرية آنذاك.. ليس فقط لأن الباشا الأول كان فى ذلك العام - 1933 - قد استقال من منصبه كمدير عام بجامعة فؤاد الأول - القاهرة الآن - احتجاجاً على فصل د. طه حسين من الجامعة فى ظل ديكتاتورية إسماعيل صدقي، وكان قد تولى وزارة المعارف قبل ذلك بسنوات في وزارة محمد محمود باشا وكان قطباً من أقطاب حزب الأحرار الدستوريين، فى حين أن المعلومات المتوافرة عن الأفندي الثاني تقول إنه كان موظفاً بدار الكتب، وأنه ألف كتاباً وحيداً بعنوان "قبائل العرب في مصر"!